على سطح مركب يعبر النيل أواخر عام 1977، دار حديث طويل بين أنور السادات والمستشار الألماني هلموت شميت عن الإيمان والأنبياء. المفاجأة للشريك الأوروبي لم تكن السماء المرصعة بالنجوم، بل فكرة أن اليهودية والمسيحية والإسلام تتقاسم سرديات وأنساباً روحية تبدأ من إبراهيم وتمتد عبر موسى وعيسى وصولاً إلى محمد. هذه ليست مجاملة دبلوماسية، بل مدخل ضروري لفهم كيف يقرأ كل تقليد نصه المقدس، وما الذي يوحّد هذه النصوص وما يميزها.
في قلب القصة يقف ادعاء مشترك: الإيمان بإله واحد، وسلسلة من الأنبياء تتكرر أسماؤهم عبر الكتب. القرآن يعترف بداود ونوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوشع وآدم، ويضع عيسى في مكانة رفيعة بوصفه من أولي العزم، بينما يراه الإسلام نبياً لا إلهاً. هذا القاسم المشترك لا يلغي الاختلافات: في التجربة الإسلامية، يُعرّف القرآن بوصفه «القراءة» وكلام الله المباشر غير المبدَّل، في حين تُفهم أسفار العهدين في اليهودية والمسيحية على أنها وحيٌ إلهي دوّنته أيادٍ بشرية متعددة، لكل منها صوتها وزمنها وأدواتها السردية.
من زاوية تاريخية، يبدأ وحي محمد في مكة عام 610، في بيئة لغوية وثقافية عربية تستند إلى تعدد الآلهة، لكن خطاب الوحي يقلب المسار نحو التوحيد الصارم. تتداخل هنا مفردات من محيط الجزيرة العربية، حيث عبرت تقاليد يهودية ومسيحية وأساطير أقدم في نسيج الحكايات. ومع ذلك، يعيد القرآن صياغة هذه المواد في إطار رسالته الخاصة: تذكير بحقيقة الآخرة وقيمة «العاقبة»، وربط الحاضر بصفحات أسبق تسمّيها الآيات «صحف إبراهيم وموسى»، ما يرسّخ فكرة الامتداد لا القطيعة.
يتمايز المسار الزمني أيضاً. فبينما تشكّلت نصوص الكتاب المقدس عبر قرون بأصوات مؤلفين ومحرّرين عديدين، يمتد زمن الوحي في الإسلام على عقدين تقريباً بين مكة والمدينة. هذا التكثيف الزمني انعكس على بنية الخطاب: من الوعظ التأسيسي في العهد المكي إلى بناء الجماعة والتشريع في العهد المدني، بما في ذلك تنظيم علاقة الدين بالمجتمع والسياسة. وبالرغم من أن الحفظ الشفهي كان الوسيط الأول، فقد ثُبّت النص باكراً بجمعٍ قياسي في خلافة عثمان بن عفان، ما منح المصحف «نصاً معيارياً» موحداً للمجتمع المسلم.
في المقابل، تجسّد الكتب اليهودية والمسيحية مرويات مؤطرة بأسماء كتّاب وأنساب ومواضع، وتتحرك بين التاريخي والتأويلي والشعري. هذا التنوع جعل التلقي المسيحي واليهودي أكثر اتساعاً لمساحات القراءة والتأويل، ومن جهة أخرى حافظت العقيدة الإسلامية على مركزية نص يُقرأ بوصفه قولاً إلهياً مباشراً. كلا النموذجين يقدّم آليات مختلفة لتشكّل المعنى وضبطه: نصٌّ موحّد مرجعيّاً في الإسلام، ومكتبةٌ متعدّدة الأصوات في التقليدين الآخرين.
ومع أن السؤال الشائع «كم من الكتاب المقدس في القرآن؟» يبدو بديهياً، إلا أنه يُبسِّط مسألة أعقد. الحكايات الكبرى عن الطوفان والميثاق والامتحان الأخلاقي تسكن ذاكرة أقدم من حدود هذه الديانات الثلاث، وتمتد إلى تراث الشرق الأدنى القديم. التداخل هنا ليس «اقتباساً» بقدر ما هو تداول لمفاهيم وكائنات سردية عبر الأزمنة، يعاد تشكيلها داخل أطر عقدية جديدة. لذلك يصف القرآن ذاته بوصفه تذكرةً واستئنافاً للرسالة، لا كتاباً ينافس أسلافه على الشرعية.
تترتب على هذا الفهم آثار عملية اليوم. الاعتراف بالجذور المشتركة بين الإسلام واليهودية والمسيحية لا يعني تذويب الفوارق العقائدية، بل يسمح بإطار نقاش أقل حدّة وأكثر دقة: التوحيد كمرجعية جامعة، والنبوة كجسر بين النصوص، والأخلاق كقضية مشتركة. حين يُشاع هذا الوعي، يصبح الحديث عن «صراع أديان» أقل إغراءً، وتكتسب السياسات العامة أرضيةً أنسب للعيش المشترك.
المصدر : https://www.soubha.com/arabic/i/93077571/ktab-oahd...


