في محاضرته التي احتضنها مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية بتنظيم من جائزة الملك فيصل العالمية، دعا الناقد والمفكر العراقي محسن جاسم الموسوي إلى إعادة النظر في الأحكام السائدة حول العصر الإسلامي الوسيط، معتبرًا أنه لا يمكن قراءته من خلال التصورات الأوروبية المهيمنة التي اختزلته في صورة الانحطاط والتقليد. انطلق الموسوي من عنوان محاضرته “جمهورية الآداب في العصر الإسلامي الوسيط: بناء المعرفة بالعربية” ليؤكد أن الفترة الممتدة بين القرنين الثاني عشر والثامن عشر مثّلت فضاءً عالميًّا حيًّا للإنتاج الثقافي، شاركت فيه أقاليم واسعة من الأندلس إلى آسيا الوسطى، عبر شبكة معقدة من النصوص والشروح والحواشي والمناظرات.
يرى الموسوي أن اللغة العربية كانت العمود الفقري لهذه “الجمهورية”، لا بوصفها لغة دينية فحسب، بل كلغة جامعة للبلاغة والفلسفة والعلوم، ما جعلها أداة مشتركة بين العلماء في أقاليم متباعدة جغرافيًّا وإثنيًّا. هذا الدور جعل دراسة النحو والبلاغة أساسًا للتكوين العلمي، وفتح الباب أمام تداخل العربية مع اللغات المحلية في علاقة جدل وتأثر متبادل، بحيث تحولت العربية إلى حاضنة لحقول معرفية متنوعة، من الكلام والفقه إلى العلوم الطبيعية والجغرافيا. في هذا التصور، لا تبدو العصور الوسطى فضاءً للجمود، بل نطاقًا رحبًا لإعادة توظيف التراث وابتكار أشكال جديدة من المعرفة.
توقّف الموسوي عند فضاءات الإنتاج الثقافي التي تشكّلت خارج الإطار الرسمي الضيق، فإلى جانب المدارس والزوايا والمساجد، مثّلت الأسواق، وورش النسّاخ، ومجالس العلماء، والرحلات العلمية حلقات أساسية في صناعة النص وتداوله. مدن مثل القاهرة ودمشق وأصفهان وسمرقند، إلى جانب مكة والمدينة، برزت كمراكز حية يتقاطع فيها اليومي بالعلمي، فتنتج موسوعات ومعاجم وكتب تراجم وتعليقات، وتخلق جمهورًا واسعًا من القرّاء، في مناخ يتسع حتى للسخرية والتهكم بوصفهما جزءًا من حيوية المشهد الثقافي. هكذا تتشكل صورة “جمهورية إسلامية للآداب” حيث تتجاوز المعرفة حدود المؤسسات الرسمية لتتجذر في الحياة الاجتماعية.
في قراءة الموسوي، لا يمكن فصل هذا الازدهار المعرفي عن الشبكات الواسعة التي نسجتها الرحلات والحج والمراسلات والتصوف، فلقاءات العلماء والرحالة والمتصوفة في الحواضر الكبرى وفي مواسم الحج أسهمت في تدوير الكتب والأفكار، وأنتجت طبقات متداخلة من النصوص من ابن بطوطة وابن جبير إلى ابن عربي والشاذلي وغيرهم. الأمثلة التي قدّمها، مثل لقاء ابن خلدون بتيمورلنك، وأعمال السكاكي والسيوطي، وانتشار بردة البوصيري في الوجدان الشعبي، تشير إلى دينامية ثقافية تجعل من العصر الوسيط مختبرًا دائمًا لإعادة إنتاج المعنى، لا مجرد إعادة نسخ للموروث الكلاسيكي.
تنتهي المحاضرة إلى دعوة صريحة لفك الارتباط بين دراسة هذا العصر وبين الأحكام الأوروبية التي ربطت قيمته بمقاييس المركزية الغربية الحديثة، وإلى استعادة الوعي به كمرحلة تراكم معرفي عالمي، لعبت فيها العربية دور اللغة الجامعة كما لعبت باريس لاحقًا دور “عاصمة الأدب” الأوروبي. في هذا الأفق، تصبح “جمهورية الآداب الإسلامية” مرجعًا لإعادة التفكير في تاريخ الثقافة العربية والإسلامية، بعيدًا عن ثنائية النهضة/الانحطاط، وبما يسمح برؤية أدق لدور الشبكات العلمية والروحية في صناعة ذاكرة معرفية لا تزال آثارها ممتدة في الحاضر.
المصدر : https://aljinane.articlophile.com/blog/i/93120249/...


