أعلنت أبرشية نيويورك الكاثوليكية أنها جمعت نحو 300 مليون دولار لتعويض ما يقرب من 1300 من ضحايا الانتهاكات الجنسية التي ارتكبها أفراد من الإكليروس على مدى السبعين عامًا الماضية، في واحدة من أكبر عمليات التعويض المالي في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية في الولايات المتحدة. يأتي هذا المبلغ في إطار تسويات قانونية مع الضحايا الذين تقدّموا بدعاوى ضد المؤسسة الكنسية، ما يعكس حجم الأزمة الأخلاقية والقانونية التي تراكمت عبر عقود، وأجبرت القيادة الكنسية على إعادة النظر في إدارة ملفات العنف الجنسي داخل مؤسساتها الرعوية والتعليمية.
للوصول إلى هذا المبلغ، اضطرت الأبرشية إلى بيع مقرها المركزي في مانهاتن وتقليص ميزانيتها العامة بنسبة تقارب 10 في المئة، في خطوة تكشف أن كلفة الانتهاكات لا تقتصر على الجانب المعنوي، بل تمتد إلى البنية المالية والمؤسسية للكنيسة نفسها. هذا التحول المالي يعبّر عن انتقال القضية من طور الاعتراف الأخلاقي إلى تحمل تبعات مادية ملموسة، حيث تغدو الموارد العقارية والميزانيات التشغيلية جزءًا من عملية التعويض وتحمّل المسؤولية أمام الضحايا والرأي العام. وفي الوقت ذاته، يحمل هذا المسار بعدًا رمزيًا؛ إذ يُفهم بيع أصول كنسية كبرى على أنه اعتراف عملي بأن حماية المؤسسة لم تعد أولوية تسبق العدالة للضحايا.
الأرقام المعلنة، من حيث عدد الضحايا الذي يتجاوز 1300 حالة في نيويورك وحدها على مدى سبعين عامًا، تشير إلى أن المسألة ليست حوادث فردية معزولة، بل نمط بنيوي من الإخفاء والتقصير في حماية القاصرين والضعفاء داخل الإطار الكنسي. جزء من هذه القضايا سينتهي بتسويات مالية خارج قاعات المحاكم، فيما سيُحال جزء آخر إلى القضاء خلال العام المقبل، ما يعني أن المسار القانوني ما يزال مفتوحًا، وأن الكشف عن حجم الأذى لم يصل بعد إلى نهايته. في هذا السياق، يصبح التقاضي أداة لإعادة كتابة العلاقة بين الفرد والمؤسسة الدينية، حيث يطالب الضحايا بحقهم في سرد روايتهم في الفضاء القضائي والإعلامي بعد عقود من الصمت أو التهميش.
في اليوم نفسه الذي أُعلنت فيه هذه التسويات في نيويورك، كشفت أبرشية نيو أورلينز الكاثوليكية أن شركات التأمين التابعة لها ستدفع نحو 305 ملايين دولار لتعويض حوالي 600 ضحية من ضحايا الانتهاكات الجنسية المنسوبة إلى رجال دين في الولاية. هذا التزامن بين ملفين كبيرين في ولايتين مختلفتين يوضح أن الأزمة ذات طابع وطني داخل الكنيسة الكاثوليكية الأميركية، وأن شبكات التأمين نفسها أصبحت طرفًا رئيسيًا في إدارة كلفة هذه الانتهاكات. كما يسلط الضوء على تحوّل الملف من قضية أخلاقية داخلية إلى قضية قانونية ومالية تشارك فيها مؤسسات اقتصادية وشركات تأمين، بما يعكس تعقّد المشهد بين المسؤولية الدينية والمسؤولية المدنية.
على المستوى الديني والثقافي، تمثل هذه التسويات تحديًا عميقًا لصورة الكنيسة الكاثوليكية بوصفها مرجعًا أخلاقيًا وروحيًا، خصوصًا في مجتمع أميركي شديد الحساسية تجاه قضايا حماية الأطفال وحقوق الضحايا. فالكثير من المؤمنين يجدون أنفسهم أمام مفارقة صعبة: مؤسسة تحمل رسالة روحية عن الرحمة والعدالة، وفي الوقت ذاته يُكشف عن تاريخ طويل من التستر أو سوء المعالجة لانتهاكات داخلية جسيمة. هذا التصدع ينعكس في نقاشات لاهوتية ورعوية حول ضرورة إصلاح بنية السلطة داخل الكنيسة، وتعزيز الشفافية، وإعادة تعريف العلاقة بين الكاهن والجماعة، بما يقلل من فرص استغلال السلطة الروحية في إلحاق الأذى بالضعفاء.
كما أن لهذه التطورات بُعدًا يتجاوز الولايات المتحدة، إذ تتابع الكنائس في مناطق أخرى من العالم هذه الملفات بوصفها مؤشرًا على اتجاهات مستقبلية في التعامل مع قضايا الانتهاكات الجنسية داخل المؤسّسات الدينية. فنجاح الضحايا في انتزاع تعويضات كبيرة ومعترف بها علنًا يرسل رسالة إلى ضحايا محتملين أو صامتين في أماكن أخرى بأن اللجوء إلى القضاء ليس مسارًا مستحيلًا، وأن القداسة الرمزية للمؤسسة الدينية لم تعد تحول دون مساءلتها قانونيًا. بهذا المعنى، تتحول هذه التسويات إلى نقطة مفصلية في علاقة الدين بالقانون المدني، وفي كيفية تكيّف الكنيسة مع معايير جديدة للمساءلة والشفافية في عالم يعيد النظر في سلطة المؤسسات التقليدية وحدودها.
المصدر : https://www.soubha.com/arabic/i/93119975/taaoydat-...


