تشهد المملكة المتحدة تحولًا دينيًا هادئًا يتخذ شكلًا عمليًا أكثر من كونه عقائديًا. بينما يتراجع الانتماء المسيحي ويزداد الابتعاد عن المؤسسات، تبرز الوثنية الحديثة بوصفها خيارًا مرنًا يرضي الرغبة في تجربة روحية شخصية بلا التزامات تنظيمية. الباحث فرانسيس يونغ يرى أن هذا الميل يتوافق مع أنماط الحياة بعد الجائحة، حيث تفضيل الطقوس الفردية والهوية الروحية المفتوحة على الانخراط في جماعات ذات متطلبات واضحة.
وفق تقرير صادر عن معهد تأثير الإيمان في الحياة (IIFL)، استنادًا إلى استطلاع لآراء 2,774 شخصًا غيّروا قناعاتهم الدينية، فإن 83% ممن غادروا المسيحية يعرّفون أنفسهم بأنهم لادينيون أو لاأدريون. في المقابل، ترتفع نسبة من يصفون أنفسهم بأنهم "روحيون" لتبلغ 11%، حيث يعرّف قرابة نصفهم أنفسهم بأنهم "وثنيون"، ويميل بعضهم إلى "ويكا". تقرير المعهد يشير إلى نمو ملحوظ لهذه الهويات الروحية مقارنة بالتحولات إلى أديان منظمة أخرى، وهو ما ينسجم مع تغطية صحفية في The Times.
بيانات التعداد لعام 2021 تُظهر أن عدد من يعرّفون أنفسهم ضمن فئات الوثنية، بما في ذلك الويكا والدرويدية، بلغ قرابة 74 ألفًا، ارتفاعًا من 57 ألفًا في 2011؛ بينما ارتفع عدد ممارسي الويكا من 11,800 إلى نحو 13,000. وتبدو هذه المجتمعات أكثر حضورًا في مناطق مثل سيريديجيون وكورنوال وسومرست، مع اعتمادها على تقاليد ما قبل المسيحية والفولكلور والسحر الشعبي والطقوس.
ورغم أن هذه الأرقام محدودة قياسًا بالديانات الكبرى، فإنها تمثّل واجهة لموجة اهتمام أوسع بالطقوس والممارسات الروحية المنتشرة رقميًا. منصات مثل تيك توك عبر الوسم WitchTok غذّت محتوى الطقوس الفردية ووصفات السحر و"التمكين الشخصي"، ما سهّل تبنّي ممارسات روحية بلا وساطة مؤسسية، وأضفى قبولًا اجتماعيًا أوسع على هذا النمط في الحياة العامة.
تاريخيًا، انطلقت الوثنية الحديثة في بريطانيا منتصف القرن العشرين بمنظور جماعي يرتكز على التلقين والمشاركة ضمن مجموعات. لكن منذ التسعينيات ظهرت حركة "Hedge Witch" التي شجّعت التلقين الذاتي والممارسة الفردية. اليوم، تتقدم فكرة "الوثني الفردي" المدعومة بسياقات رقمية، حيث تُصبح الممارسة هي محور الهوية أكثر من الاعتقاد، ويبدأ كثيرون بالطقوس قبل أن يتبنّوا تسمية محددة لانتمائهم.
هذا "النمط المختلف من الدين"، كما يصفه يونغ، لا يهدف إلى التجنيد ولا يطرح اعترافًا عقائديًا موحّدًا؛ بل يترك مساحة واسعة لصياغة القيم ذاتيًا والانخراط في طقوس مرتبطة بالطبيعة والرموز القديمة. لذا، يبدو أقل تصادمية في مجتمع ما بعد المسيحية مقارنة بالأديان التي تحمل مطالب تنظيمية واضحة، وهو ما يفسر جزءًا من تقبّله الاجتماعي.
غير أن هذا المشهد لا يتحرك في الفراغ؛ فهناك منظومات دولية تروّج لخطاب روحي–بيئي عالمي يتقاطع مع نزعات وثنية–طبيعية، عبر مبادرات تتصل بالاستدامة والمناخ والصحة الشمولية. تغطيات اليوم الدولي لليوغا في الأمم المتحدة، ونقاشات منتدى الاقتصاد العالمي حول الروحانية العالمية، وحملات مؤتمرات المناخ، تعكس أحيانًا خطابًا يقدّم الطبيعة بصفته مرجعًا قيمياً أعلى، ويطالب بإعادة تشكيل أنماط الحياة والاقتصاد وفق معايير بيئية صارمة.
في هذا الإطار، تبدو الوثنية الحديثة خيارًا جذابًا لمن يبحث عن انتماء رمزي وروحي بلا التزامات تنظيمية، لكنها أيضًا تتقاطع مع مشاريع قيمية واسعة التأثير. ومهما اختلفت القراءة النقدية لهذا الاتجاه، يظل العامل الحاسم هو انتقال مركز الثقل من المعتقد المنظّم إلى الممارسة اليومية؛ حيث تصبح الطقوس الشخصية والخيارات الفردية هي بوابة الهوية الروحية في المملكة المتحدة المعاصرة.
المصدر : https://www.soubha.com/arabic/i/93118706/alothny-f...


