يشير القرار المفاجئ الذي اتخذه الأساقفة في بلجيكا بوقف بث إذاعة كاثوليكية ناطقة بالفرنسية إلى تحوّل عميق في طريقة حضور الكنيسة في الفضاء الإعلامي، وإلى حجم الضغوط المالية والتنظيمية التي تواجهها المؤسسات الدينية في أوروبا الغربية. فالإذاعة، التي كانت لسنوات منصة لبث القداسات، والبرامج الروحية، والحوار الديني – الثقافي، وجدت نفسها خارج الهواء بقرار كنسي اعتُبر قبل وقت قصير «غير متخيَّل»، ما يعكس تغيّرًا في أولويات القيادة الأسقفية وفي تقييمها لجدوى الاستثمار في وسائط تقليدية مقابل الرهان على وسائط رقمية أقل كلفة وأكثر انتشارًا.
خلف هذا القرار تقف مجموعة من العوامل المتداخلة. من جهة، تواجه الكنيسة الكاثوليكية في بلجيكا، كما في دول أوروبية أخرى، تقلصًا في الموارد المالية والبشرية، مع انخفاض أعداد الممارسين المنتظمين وضعف الإقبال على الدعوات الدينية، ما ينعكس على القدرة على تمويل مشاريع إعلامية مستقلة تتطلب بنية تقنية وفريقًا مهنيًا واستمرارية برمجية. ومن جهة أخرى، أدت التحولات في عادات الاستماع واستخدام المنصات الرقمية إلى تراجع الوزن النسبي للإذاعات التقليدية، حتى الدينية منها، لصالح البودكاست، والبث عبر الإنترنت، ومحتويات الفيديو القصيرة، الأمر الذي يدفع الفاعلين الدينيين إلى إعادة توزيع مواردهم بما يتلاءم مع هذا المشهد الجديد.
على المستوى الكنسي، لا يمكن فصل إيقاف هذه الإذاعة عن نقاش أوسع داخل الكنيسة البلجيكية حول كيفية مخاطبة مجتمع شديد العلمنة، وحول الأدوات الأنجع للحضور في الفضاء العام. فالإذاعة كانت تشكل، بالنسبة إلى شريحة من المؤمنين، رابطًا يوميًا مع الخطاب الكنسي، خصوصًا لدى كبار السن والمرضى والمقيمين في مناطق بعيدة عن المراكز الحضرية الكبرى. إغلاقها يثير تساؤلات عن مصير هذا الجمهور، وعن البدائل التي يمكن أن تقدمها الأبرشيات، سواء عبر منصات رقمية موجهة أو عبر شراكات مع وسائل إعلام قائمة. في المقابل، يرى البعض في القرار محاولة لتحرير موارد لصالح مشاريع رعوية جديدة تركز على الشباب، والتعليم، والعمل الاجتماعي.
يحمل هذا التطور أيضًا بعدًا رمزيًا يتعلق بصورة الكنيسة في المجتمع البلجيكي. فمن خلال «نزع القابس» عن وسيلة إعلامية كاثوليكية، تُظهر القيادة الأسقفية استعدادًا لاتخاذ قرارات صعبة تمس إرثًا مؤسساتيًا ارتبط بمرحلة كان فيها الإعلام الديني جزءًا من البنية الثقافية العامة. اليوم، ومع تراجع الحضور الكنسي في الفضاء العمومي، يبدو أن الكنيسة تختار تقليص حضورها في بعض القنوات بدل الإصرار على إبقائها حية بأي ثمن، في إقرار ضمني بأن زمن الاحتكار الرمزي قد انتهى، وأن الحضور المستقبلي سيتخذ أشكالًا أكثر تواضعًا وتخصصًا.
في البعد الديني – الثقافي الأوسع، يعكس هذا القرار مسارًا عامًا يشهده الغرب الأوروبي، حيث تنتقل المؤسسات الدينية من منطق الشبكات الإعلامية الواسعة إلى منطق «الجزر» الرقمية المستهدفة، مع ما يحمله ذلك من مخاطر فقدان الصوت الموحد على المستوى الوطني، مقابل تكاثر مبادرات محلية أو فردية أقل خضوعًا للرقابة الكنسية المباشرة. وبين من يرى في الإغلاق علامة على أزمة داخلية ومن يعتبره خطوة براغماتية فرضتها التحولات الاجتماعية والتقنية، تبقى النتيجة الفعلية واحدة: خريطة الإعلام الديني في بلجيكا تدخل مرحلة جديدة، تتقلص فيها مساحة الأثير التقليدي لصالح فضاءات رقمية لم تتضح بعد ملامحها النهائية.
Sources
المصدر : https://www.soubha.com/arabic/i/93140442/alknys-by...